الكشفية تستمد قوتها من أبنائها

الكشفية تستمد قوتها من أبنائها

بقلم/ هشام عبد السلام موسى


من يهن يسهل الهوان عليه.. ما لجرح بميت إيلام، هذا تحديدا التوصيف الحقيقي لوضع الكشفية في أماكن كثيرة، نراها رأي العين هنا وهناك، ولدى ذلك وذاك، تراجع تلو تراجع، و
تسليم من ورائه تسليم، وخضوع وانكسار، وانحسار وانجرار، وضعف في الهمم، ونزول عن القمم. وتراجع في القيم..

كانت الكشفية بالأمس تستمد قوتها من أبنائها الحقيقيين الذين كانوا على رأسها، ممن بذلوا أنفسهم وأموالهم ووقتهم وفكرهم وحماسهم من أجل قضية آمنوا بها فأخلصوا لها؛ ألا وهي التربية الكشفية، فلما تقلدوا سدة الجمعيات الكشفية، كانوا كالنمور والأسود الكاسرة، تدافع عن عرينها لحماية أبنائها بكل شراسة واقتدار، فاستطاعوا أن يجلبوا لها المصالح، وأن يمهدوا لكشفيتهم الطريق، ولم تكن تنقصهم قوة المواجهة، ولم تعجزهم قلة الإمكانات، إنما كانوا أغنياء النفس فأغنوها، وكراما على الآخرين فأعزوها، ونهضوا بها في كل مكان.

فالكشفية في بلادي كانت تستمد قوتها من قادتها، عندما كان على رأس جمعياتها قيادات أفذاذ مثل عزيز بكير وجمال خشبة والفريق أنور عبد اللطيف، فلما ذهب هذا الجيل الذهبي، وجدت الجمعيات نفسها ضعيفة مكشوفة غطاء الظهر، فبدأت تبحث لها عن شخصيات تتوارى خلفها من أصحاب ألقاب الدكتوراه، وأصحاب الرتب العسكرية الرفيعة، معتقدة أنها بإمكانهم أن يجلبوا لها المنافع، ويحققوا لها المصالح، وجيلا بعد جيل ضعفت الهمم واكتشفت الكشفية أن أغلب هؤلاء إنما كانوا هم أكثر المستفيدين من وجودهم على كراسي الكشفية، إما وجاهة، وبحثا عن مجدهم هم لا مجد الكشافة، وإما فرصا للسفر، وإما كسبا للمال بشكل أو بآخر، إلا قلة قليلة سعت بجهدها لتحقيق شيئ للكشافة.

استمدت الكشافة في سوريا قوتها من شخصية فذة مثل القائد/ علي الدندشي، الذي سأذكر لكم موقفا واحدا من بين مواقفه العديدة لتعلموا من هو الرجل، فعندما اعتذرت تونس عن استضافة المخيم الكشفي العربي الثالث الذي كان مقررا عقده بها عام 1958 في آخر لحظة قبل انعقاد المخيم بأقل من شهر، فدعى لاجتماع للجنة الكشفية العربية، وقال: إذا توقف المخيم العربي مرة فلن تقوم له قائمة، وأحجم الجميع عن استضافة المخيم، فقال: سوريا ستستضيف المخيم، ولما عاد لبلده، رفضت الحكومة السورية تلك الاستضافة نظرا لضيق الوقت وما تتطلبه من امكانيات لم تكن مدرجة في الحسبان، ولم يشأ الدندشي أن يتراجع عن وعده، فقال: أنا سأستضيف المخيم الكشفي العربي على نفقتي، وأرسل إلى قبيلته الدنادشة في تل كلخ، فقدم إليه الرعيان يسوقون قطيعا به أربعمائة رأس غنم، وقاموا على إعداد المخيم، حتى تم استقبال ما يزيد عن ثلاثة آلاف كشاف، وأقيم المخيم في سوريا ونجح نجاحا مبهرا بإرادة مخلصة للكشافة.

استمدت الكشافة في ليبيا قوتها من شخصية فذة مثل القائد/ علي خليفة الزائدي، الذي أسس الكشافة في ليبيا عام 1954، ولما واجهته مشكلة القناعة بالكشافة من قبل الملك إدريس السنوسي في ذلك الوقت، لم يقف عند حدودها، واستدعى القائد علي الدندشي المفوض الإقليمي العربي في ذلك الوقت، فسافر إلى ليبيا، وطلب مقابلة الملك السنوسي، الذي استقبله في خيمة عربية، فحادث الملك بلهجة البداوة، في جلسة طويلة أنس فيها الملك لحديث الدندشي، وطلب منه أن يكون راعيا للكشافة في ليبيا وأن يفتح لها آفاق الانطلاق، فقال الملك: أوافق شريطة أن تلتزم أمامي بأن تسير الكشفية على نهج قويم، فوعده الدندشي، ولما خرج من حضرة الملك، وكان الزائدي يقف متوترا مترقبا ليعرف نتائج الاجتماع، فلما أخبره حمله بقوة من فرحته، وسارت كشافة ليبيا إلى اليوم بنهج الزائدي لا تحيد عن مبادئها.

استمدت الكشافة في سلطنة عمان قوتها، عندما قُدر أن يكون على رأسها، أحد الكشافين المؤسسين والذي كان هو الرجل الثاني في الأسرة الحاكمة في سلطنة عمان، المغفور له السيد ثويني بن شهاب آل سعيد، والذي سعى أن يكون للكشافة في بلده مكانتها المرموقة، واستطاع أن يقنع صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله بأن يكون كشافا أعظم للسلطنة، وأن يتقلد الزي الكشفي، فكان يوما مشهودا في تاريخ الكشافة العمانية والعربية والعالمية، ولازالت الكشافة العمانية تسير بتلك الدفعة المباركة، والدعم غير المحدود من قبل المقام السامي، فنهضت الكشافة في عُمان.

استمدت الكشافة قوتها من قادة أفذاذ في المغرب، أمثال: محمود العلمي، وعبد الكريم الفلوس، واستمدت الكشافة قوتها في الجزائر من قادة أفذاذ أمثال الشهيد محمد بوراس، والمناضلين محفوظ قداش ورضا بسطنجي، واستمدت الكشافة قوتها في تونس من قادة أفذاذ مثل: الشهيد المنجي بالي وعبد الله الزواغي، ومحمد رشاد الباجي، واستمدت الكشافة في السودان قوتها من قادة أفذاذ مثل: أحمد جمعة المحامي، واستمدت الكشافة في العراق قوتها من قادة أفذاذ أمثال: جبار خفاجي، وبهاء الدين الطباع، وعبد الرزاق نعمان، واستمدت الكشافة قوتها من قادة أفذاذ في الأردن أمثال: إبراهيم نسيبة، وعبد القادر أبو منصور، واستمدت الكشافة في لبنان قوتها من قادة أفذاذ أمثال: الشيخ توفيق الهبري وإبنه محمد الهبري، ومحيي الدين نصولي، ومصطفى فتح الله، وسعيد دبوس، واستمدت الكشافة في البحرين قوتها من قادة أفذاذ أمثال: محمد صالح عبد الرزاق، واستمدت الكشافة في المملكة العربية السعودية قوتها من قادة أفذاذ أمثال: عباس حداوي، وعبد الرحمن التونسي، والدكتور/ عبد الله عمر نصيف شفاه الله وعافاه.

استمدت الكشفية قوتها في كل مكان من عالمنا العربي لما كان على رأس الكشافة فيها الفئة المخلصة المؤمنة برسالة الكشفية ومبادئها، فأين وكيف ولماذا صارت لما آلت إليه الكشفية في بلداننا.

كل ذلك حدث بفعل إتاحة الفرص لغير الكشافين الحقيقيين من الوصول إلى سدة الكشافة في كل دولة، حتى أصبح ذلك وظيفة أو تكليف من الجهات الإدارية، تعين ذاك وتعزل ذاك، وتعين هذا على ذاك، وتعبث في انتخابات مؤسسات الكشافة لإنجاح فلان على حساب فلان في لعبة توازنات مقيتة لا تأتي إلا بالأضعف، والأكثر انبطاحا، والأكثر استعدادا لتقديم التنازلات، والأكثر ليونة حتى ولو حساب مصالح الكشافة، وقد كان قائدنا المغفور له بإذن الله تعالى عزيز بكير يقول: إن الإنتخابات في الكشافة لا تأتي إلا بأضعف الشخصيات التي لديها القدرة على التربيطات والشللية، أما أصحاب القيم الكشفية فإنهم لا يدخلون في تلك الدوامة، وليس لديهم هذه الأدوات غير النظيفة للوصول إلى الكراسي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم