الحركة الكشفية والمواطنة الفاعلة قراءة في فلسفة بادن باول لفكرة المواطنة


اسمحوا لي أن آخذكم في هذه التطوافة الفكرية لتوضيح مفاهيم الوطن والوطنية والمواطنة، وأشكالها وأنواعها، واستحقاقات الفرد والواجبات المستحقة عليه، والتعرف على تلك المحددات اللغوية وتطور مفاهيمها تاريخيا، ووجهات النظر حولها سواء من العلماء والفلاسفة والسياسيين، أو من خلال تعرف مفاهيمها وقواعدها لدى كل من الديانة الإسلامية والمسيحية، دعونا نغوص في فلسفة الحركة الكشفية والتعرف على أبعادها التربوية في تحقيق معاني الوطنية الفاعلة، وحتى لا يكون استدلالاتنا مجرد أحاديث انطباعية، أردت أن أصل إلى عمق فلسفة الحركة الكشفية في تلك الجوانب من خلال الاستشهاد بأقوال وتوجيهات مؤسس الحركة الكشفية اللورد بادن باول، والتي عبر من خلالها عن فكره ورؤيته لمعاني الوطن والوطنية والمواطنة، وفي الحقيقة لم أجد أوضح ولا أجلى من أقوال مؤسس الحركة كمعبر عن تلك المفاهيم، والتي هي شارحة لذاتها بنصوصها الواضحة القاطعة، وقد حاولت أن أجمع وأحشد هذه الاستشهادات النادرة لكتابات ومقولات مؤسس الحركة، وأن أصنفها حسب مفهوم كل منها على حدة لنصل إلى مفهوم عام أشمل يوضح بجلاء نظرة الحركة الكشفية لموضوع المواطنة الفاعلة.

الكشفية ومفهوم الوطنية:
• يقول بادن باول: (إن معنى الوطنية هو الولاء الشديد للمجتمع، ففي المجتماعات الحرة فإن الوطنية تتمثل في التزام الأفراد بالقوانين وقيامهم بأعمالهم وتعبيرهم عن آرائهم في الأمور السياسية والرياضية والأنشطة وترك رفاهية ورخاء المجتمع لأناس آخرين، وهذا يطلق عليه الوطنية السلبية، التي لا تعد كافية لإبراز الفضائل مثل: الحرية والعدل والشرف في العالم، والوطنية الإيجابية فقط هي التي تعزز تلك الفضائل) المصدر: (مجلة القيادة إصدار يوليو عام 1914م).
• ويقول: (هناك حلقة مفقودة ومهملة في التعليم، وهي إظهار أن الفتى يجب أن يتعلم أن حقوقه كمواطن يمكن الحصول عليها من خلال أدائه الجاد لمهامه الاجتماعية ومسئولياته الموكلة إليه، وهذا البند لا يجب أن يكون مكتوبا لكنه ينبع من الحس الوطني الذي يحركه كإنسان يسعى للوصول إلى حقوقه، من خلال العمل الجاد وليس من خلال إبراز العداء للآخرين، وباختصار يجب على المرء أن يلعب دوره الاجتماعي بكفاءة ويصبح عضوا نافعا في المجتمع) المصدر: (مجلة القيادة إصدار يوليو عام 1914م).

الكشفية والولاء للوطن:
• يقول بادن باول: (يجب أن يكون هدفك وشعارك: وطني قبل كل شيء) المصدر: (كتاب الكشف للفتيان -إصدار عام 1908م).
• ويقول: (الولاء للوطن هو أعظم قيمة للحفاظ على التوازن البشري لدى الإنسان، ويجب أن تحتوى الخدمات للآخرين، وإنكار الذات، والتضحية بالذات في سبيل الوطن، وبحيث تنبع من الرغبة في حماية الوطن من أي معتدي اجنبي، وهذا واجب كل فرد في الوطن، ولكن ذلك لا يعني الدعوة لإسالة الدماء أو تنمية شعور العدوان، ولا يجب دعوة الشباب إلى صراع مسلح أو تكوين عقيدة لديه للحرب بدون داع) المصدر: (المساعد لقيادات الكشافة -إصدار عام 1944م).

الكشفية وعدم التمييز:
• استطاعت الحركة الكشفية والإرشادية ترسخ مفهوم عدم التمييز انطلاقا من منطوق تعريفها أنها: (حركة تربوية غير سياسية مفتوحة للجميع دون تمييز في الأصل أو الجنس أو العقيدة، وفق المبادئ والأسس التي وضعها مؤسس الحركة الكشفية اللورد بادن باول).

الكشفية والمساواة بين الجنسين في الحقوق:
• يقول بادن باول: (تسري نفس مبادئ المنظمة والتدريب المطبقة على الجمعيات الكشفية للفتيان على جمعيات المرشدات، وكل منهما يساعد الآخر، فكلاهما يعتبران عضوين في أسرة واحدة في شكلهما العام، ويبرز التعاون بين جمعيات الكشافة والمرشدات للفتيان صيغة أفضل للتعلم المختلط حيث أن التعاون يسير نحو النجاح في تلبية الاحتياجات المشتركة للأفراد. المصدر: (الكشافة وحركات الشباب إصدار عام 1924م).

الكشفية وحرية الفكر:
• يقول بادن باول: (يجب ألا يميل الكشاف إلى أحد أو حزب؛ إلا بعد الاستماع إلى أفكارهم والاقتناع بها تماما، ثم يقرر بعد ذلك إلى من سينضم أو يؤيد بعد تحكيم عقله، الذي سيرشده إلى اتباع الصواب، وتجنب الانضمام إلى الفكر الخاطئ) المصدر: (كتاب الكشف للفتيان -إصدار عام 1908م).
• ويقول: (من الحكمة ألا تترك نفسك للأهواء وتنضم إلى الجماعة الهوجاء دون تمييز اتجاهاتهم، فلابد أن تفكر وتشكل وجهة نظر خاصة، وتتصرف وفقا لها) المصدر: (مجلة القيادة إصدار عام 1909م).

الكشفية وحرية الفرد في إطار حرية المجتمع:
• يقول بادن باول: (إن حرية الأشخاص، وما يتمتعون به من حرية فردية يجب أن لا تتعدى الحدود لتطغى على مصلحة المجتمع ككل، فكل فرد حر في آرائه ومعتقداته، ولكن لا بد من وجود حدود لهذه الحرية، فنحن جميعا نتفق مع مبادئ المجتمع الحقيقية السمحة، التي لا تختلف على الإطلاق مع مبادئ الفردية والاجتماعية، فنحن مع الحرية المسؤولة التي لا تؤدي بالمجتمع للعيش في حياة بائسة تعيسة بسبب الآراء الفردية، والحرية الشخصية، فنحن نريد أن نؤكد أن كل إنسان خلقه الله في هذا العالم؛ لابد أن يتمتع بفرصة في الحياة بدون ألم أو فقر) المصدر: (كتاب الاتجاه نحو النجاح -إصدار عام 1922م).

الكشفية وحرية الاعتقاد:
• يقول بادن باول: (إن ولاءنا وإخلاصنا لله سبحانه وتعالى، ويمكننا إثبات ذلك من خلال تنفيذ واجباتنا تجاه المؤسسة الدينة التي نتبعها، والدين الذي ننتمي إليه، ومن خلال الحفاظ على وعد وقانون الكشافة) المصدر: (كتاب الكشف للفتيان -إصدار عام 1908م).
• ويقول: (يجب أن يدرك الكشافون أن جزءا من واجبهم نحو الله يتمثل في رعاية وتنمية القدرات التي منحها الله لهم ليستفيدوا منها في حياتهم مثل: الصحة، والقوة والقدرة الإيجابيةن وأن يكرسوا هذه القوى لخدمة الله وطاعته، هذا بالإضافة إلى النعم الأخرى كالعقل الراجح والقدرة على الفهم والتقدير الذي ميز الله به الإنسان، وهكذا يجب على الإنسان أن يمارس الحب تجاه الآخرين ويسعى لرضا الله) المصدر: (المساعد لقيادات الكشافة -إصدار عام 1944م).

الكشفية والاعتزاز بالشرف:
• يقول بادن باول: (يجب أن يعتز الكشاف بشرفه وكرامته أكثر من أي شيء آخر) المصدر: (كتاب الكشف للفتيان -إصدار عام 1908م).
• ويقول:( القانون الأول هو: يجب الثقة في في شرف وكرامة وأمانة الكشاف، وهو الشعار الذي يقوم عليه نظام وشعار الكشافة، فالكشاف يتميز بالاستقامة، ومن ثم يجب أن تقوم جميع التدريبات على أساس الثقة والأمانة والأخلاق) المصدر: (كتاب المساعدات لقيادة الكشافة إصدار عام 1944م).

الكشفية والنظام:
• يقول بادن باول: (لكي تصبح الأمة قوية ومتقدمة يجب أن تكون منظمة، والنظام يمكن الحصول عليه من خلال النظام الذي يتمتع به الأفراد في حياتهم فينعكس ذلك النظام الفردي ليصبح النظام صفة عامة، ونعني بالنظام الطاعة لتعليمات الهيئات والالتزام بمتطلبات الواجب، ويمكن الوصول لذلك من خلال تعليم الكشافين النظام الشخصي أولا، والالتزام بالواجب والتضحية بالذات وعدم الأنانية ويتم ذلك عن طريق الإلقاء بالمسؤولية على عاتقه وتوقع الأداء المتميز منه) المصدر: (كتاب الكشف للفتيان إصدار عام 1908م).

الكشفية وحقوق المعاقين:
• يقول بادن باول: (بالإضافة إلى الأنشطة العضلية في المخيمات، لابد أن ندرس إمكانية وجود أنشطة بدنية لهؤلاء المعاقين، وتنظيم سباقات بينهم على قوة التحمل، نريد مساعدة الضعيف ليشعر بالقوة والأمل) المصدر: (مجلة القيادة إصدار مايو 1920م).
• ويقول:(في مجال الكشافة هناك عدد من المعاقين بدنيا وسمعيا وصوتيا وبصريا، ولكن لديهم القدرة والعزيمة والأمل الذي كان من الممكن أن لا يتوفر لهم لو كانوا أصحاء، ومعظم هؤلاء الكشافين لا يستطيعون ممارسة الأنشطة الكشفية العادية، كمسابقات الكشافة، لذا تم توفير مسابقات بديلة لهم، وإن ما يميز هؤلاء الفتيان هو مرحهم وشغفهم لعمل شيئ جدير بالتقدير في المجال الكشفي في حدود قدراتهم، والكشافة تساعدهم على عمل علاقات أخوة وصداقة مع الآخرين، وإعطائهم فرصة أداء بعض الأعمال التي يتطلعون إليها، وإتاحة الفرص لهم للتعبير عن أنفسهم أمام الآخرين وإثبات قدرتهم على إنجاز المهام الصعبة) المصدر: (المساعد لقيادات الكشافة – طبعة الأخوة العالمية إصدار عام 1944م).

الكشفية والواجب:
• يقول بادن باول: (عندما يقوم الإنسان بواجبه على الوجه الأكمل، ويبذل كل ما في وسعه لأداء مهامهح يقابل ربه دون خوف، ويقول له بثبات وثقة: حاولت أن أقوم بواجبي كما يجب، وبذلت قصارى جهدي، وبذلك يكون قد أدى ما عليه وليس عليه عقاب) المصدر: (الكشافون فيما وراء البحار إصدار عام 1913م).
• ويقول: (يجب أن تؤدي واجبك وتستخدم كل إمكانياتك للوصول للهدف الذي تسعى إليه، ولا تدخر جهدا في ذلك، فشعار الأشبال هو: أبذل جهدي) المصدر: (الكشاف الصغير الطبعة 17 إصدار عام 1977م).
• ويقول: (حاول أن تترك هذا العالم أفضل مما وجدته، وعندما يحين وقت وفاتك، فسوف تموت راضيا عن نفسكن وتشعر بالسعادة لأنك لم تضيع وقتك فيما لا يفيد، ولكن بذلت جهدك وكل ما في وسعك لأداء واجبك) المصدر: (الرسالة الأخيرة للكشافين- كتاب الاتجاه نحو النجاح إصدار عام 1922م).
• ويقول: (لا يجب أن يحصل الكشاف/ المرشدة على مقابل نظير مساعدة الآخرين) المصدر: (كتاب طرق المرشدات إصدار عام 1938م).
• ويقول: (قم بواجبك أولا؛ تحصل على حقوقك بعد ذلك) المصدر: (الكشاف الصغير الطبعة 17 إصدار عام 1977م).
• ويقول: (ليس من يتهرب من واجبه كشافا جيدا) المصدر: (الكشاف الصغير الطبعة 17 إصدار عام 1977م).

الكشفية والقدوة لتعزيز المواطنة:
• يقول بادن باول: (يعتمد التدريب في الحركة الكشفية أساسا على الالتزام بالقدوة والتجربة والممارسة) المصدر: (المساعد لقيادات الكشافة -إصدار عام 1919م).
• ويقول: (يتخذ الفتى من قائد الكشافة القدوة ويقلده فيما يفعله، ولذلك يمكننا القول إن قائد الكشافة تنعكس قدراته من خلال الكشافين التابعين له) المصدر: (مجلة المكتب العالمي -إصدار عام 1926م).

الكشفية والتربية على تحمل المسؤولية:
• يقول بادن باول: (إن الغرض الأساسي من نظام العمل في جماعات صغيرة، هو إحساس الفتيان بالمسؤولية بقدر الإمكان بهدف تنمية الشخصية، فإذا أعطى قائد الكشافة قائد الطليعة السلطة؛ فسوف يتوقع منه الكثير وسوف يضع الكثير من الإنجازات لتنمية الشخصية وتطوير التدريب الذي لا تستطيع المدرسة وحدها القيام به) المصدر: (المساعد لقيادات الكشافة -إصدار عام 1944م).
• ويقول: (لبناء مواطن صالح؛ لابد من تعليمه في المقام الأول كيفية تحمل المسؤولية، وتطوير إمكانياته وشخصيته، ولابد أن يصبح الشخص موضع ثقة من الوالدين ومن يقومون بالقيادة، وأخيرا لا بد أن يكون لديه إحساس بالواجب والمسؤولية تجاه المجتمع) المصدر: (مجلة القيادة -إصدار مايو عام 1930م).

الكشفية والتسامح وتقبل الآخر:
• يقول بادن باول: (هناك حكمة واحدة لابد أن نذكرها في مسألة التسامح، وهي أننا مختلفون فيما بيننان ولا يجب مطلقا أن نحقر من شأن الناس الأقل في المنزلة، فعلى سبيل المثال: قد تجيد في المجال الرياضي، وشخص آخر لا يستطيع أن يصل إلى ما وصلت إليه من إجادة، ولكن قد يكون أكثر منك نبوغا في مجال آخر غير الرياضة؛ لذلك لا يجب أن تقلل من شأن أحد الأفراد، ولكن التزم بالمقولة التي تقول: عش ودع الآخرين يعيشون) المصدر: (كتاب الاتجاه نحو النجاح -إصدار عام 1922م).

الكشفية والمواطنة العالمية:
• يقول بادن باول: (إن الإحساس بالانتماء لدولة معينة لا يجب أن يكون انحيازا أعمى لهذه الدولة، ويؤدي إلى إلحاق الأذى والضرر بالآخرين إذا تقدموا في أي مجال من مجالات الحياة، فعلينا أن نحاول إصلاح نقاط الضعف في دولنا التي ننتمي إليها، مع الاعتراف بتقدم الدول الأخرى بسبب جهدها والمشقة التي تتكبدها في ذلك) المصدر: (خطاب ألقاه بادن باول في مؤتمر مفوضي الكشافة والمرشدات بتاريخ 2 يوليو 1926م).
• ويقول: (ينبغي علينا أن نتوخى الحذر عندما نعلم أبناءنا ونغرس فيهم مبادئ الوطنية، وإن الوطنية ترتفع عن الشعور الضيق المحدود الذي يجعل الفرد ينحاز انحيازا أعمى لدولته، ويحاول تحقير شأن الدول الأخرى والحط من قدر تقدمها، ومن هنا يأتي الشعور بالغيرة والحقد مما يقضي على أمل إقامة علاقات مودة وأخوة، إن المبادئ الوطنية يجب أن تشتمل على معنى أوسع وانبل يعترف بالعدل والمنطق في إمكانية تقدم دولة على أخرى ويؤدي لنشر الأخوة والمحبة بين دول العالم) المصدر: (كتاب الكشافة وحركات الشباب – إصدار عام 1929م).
وبعد هذه التطوافة في أقوال بادن باول، نستشعر إلى أي حد قد تلمست الحركة الكشفية في فكرها وفلسفتها تلكم الأبعاد الوطنية من أجل تحقيق المواطنة الفاعلة، حتى ليكاد كل فعل يقوم به الكشاف في إطار التزامه بوعده وقانونه وتطبيق منهجه، إنما هو في حقيقته تدريب حقيقي على غرس قيم المواطنة الفاعلة، والتي مؤداها في النهاية هو إنتاج المواطن الصالح النافع لنفسه والقادر على الإسهام في بناء مجتمعه.
بقلم/ هشام عبد السلام موسى

إرسال تعليق

أحدث أقدم